الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآيات (84- 95): {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)}قوله تعالى: {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً} أي وأرسلنا إلى مدين، ومدين هم قوم شعيب.وفي تسميتهم بذلك قولان: أحدهما- أنهم بنو مدين بن إبراهيم، فقيل: مدين والمراد بنو مدين. كما يقال مضر والمراد بنو مضر.الثاني- أنه أسم مدينتهم، فنسبوا إليها. قال النحاس: لا ينصرف مدين لأنه أسم مدينة، وقد تقدم في الأعراف هذا المعنى وزيادة. {قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} تقدم. {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ} كانوا مع كفرهم أهل بخس وتطفيف، كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائد، واستوفوا بغاية ما يقدرون عليه وظلموا، وإن جاءهم مشتر للطعام باعوه بكيل ناقص، وشححوا له بغاية ما يقدرون، فأمروا بالإيمان إقلاعا عن الشرك، وبالوفاء نهيا عن التطفيف. {إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ} أي في سعة من الرزق، وكثرة من النعم.وقال الحسن: كان سعرهم رخيصا. {وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} وصف اليوم بالإحاطة، وأراد وصف ذلك اليوم بالإحاطة بهم، فإن يوم العذاب إذا أحاط بهم فقد أحاط العذاب بهم، وهو كقولك: يوم شديد، أي شديد حره. واختلف في ذلك العذاب، فقيل: هو عذاب النار في الآخرة.وقيل: عذاب الاستئصال في الدنيا.وقيل: غلاء السعر، روي معناه عن ابن عباس.وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما أظهر قوم البخس في المكيال والميزان إلا ابتلاهم الله بالقحط والغلاء». وقد تقدم. قوله تعالى: {وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ} أمر بالإيفاء بعد أن نهى عن التطفيف تأكيدا. والإيفاء الإتمام. {بِالْقِسْطِ} أي بالعدل والحق، والمقصود أن يصل كل ذي كل نصيب إلى نصيبه، وليس يريد إيفاء المكيال والموزون لأنه لم يقل: أوفوا بالمكيال وبالميزان، بل أراد ألا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود، وكذا الصنجات. {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ} أي لا تنقصوهم مما استحقوه شيئا. {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} بين أن الخيانة في المكيال والميزان مبالغة في الفساد في الأرض، وقد مضى في الأعراف زيادة لهذا، والحمد لله. قوله تعالى: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} أي ما يبقيه الله لكم بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر بركة، وأحمد عاقبة مما تبقونه أنتم لأنفسكم من فضل التطفيف بالتجبر والظلم، قال معناه الطبري، وغيره.وقال مجاهد: {بقية الله خير لكم} يريد طاعته.وقال الربيع: وصية الله.وقال الفراء: مراقبة الله. ابن زيد: رحمة الله. قتادة والحسن: حظكم من ربكم خير لكم.وقال ابن عباس: رزق الله خير لكم. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} شرط هذا لأنهم إنما يعرفون صحة هذا إن كانوا مؤمنين.وقيل: يحتمل أنهم كانوا يعترفون بأن الله خالقهم فخاطبهم بهذا. {وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي رقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم، أي لا يمكنني شهود كل معاملة تصدر منكم حتى أؤاخذكم بإيفاء الحق.وقيل: أي لا يتهيأ لي أن أحفظكم من إزالة نعم الله عليكم بمعاصيكم. قوله تعالى: {قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ} وقرى {أصلاتك} من غير جمع. {تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا} {أَنْ} في موضع نصب، قال الكسائي: موضعها خفض على إضمار الباء.وروي أن شعيبا عليه السلام كان كثير الصلاة، مواظبا على العبادة فرضها ونفلها ويقول: الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلما أمرهم ونهاهم عيروه بما رأوه يستمر عليه من كثرة الصلاة، واستهزءوا به فقالوا ما أخبر الله عنهم.وقيل: إن الصلاة هنا بمعنى القراءة، قاله سفيان عن الأعمش، أي قراءتك تأمرك، ودل بهذا على أنهم كانوا كفارا.وقال الحسن: لم يبعث الله نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة. {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا} زعم الفراء أن التقدير: أو تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء. وقرأ السلمي والضحاك بن قيس {أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء} بالتاء في الفعلين، والمعنى: ما تشاء أنت يا شعيب.وقال النحاس: {أَوْ أَنْ} على هذه القراءة معطوفة على {أَنْ} الأولى. وروي عن زيد بن أسلم أنه قال: كان مما نهاهم عنه حذف الدراهم.وقيل: معنى. {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا} إذا تراضينا فيما بيننا بالبخس فلم تمنعنا منه؟!. {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} يعنون عند نفسك بزعمك. ومثله في صفة أبي جهل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] أي عند نفسك بزعمك.وقيل: قالوه على وجه الاستهزاء والسخرية، قال قتادة. ومنه قولهم للحبشي: أبو البيضاء، وللأبيض أبو الجون، ومنه قول خزنة جهنم لأبي جهل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}.وقال سفيان بن عيينة: العرب تصف الشيء بضده للتطير والتفاؤل، كما قيل للديغ سليم، وللفلاة مفازة.وقيل: هو تعريض أرادوا به السب، وأحسن من هذا كله، ويدل ما قبله على صحته، أي إنك أنت الحليم الرشيد حقا، فكيف تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا! ويدل عليه. {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا} أنكروا لما رأوا من كثرة صلاته وعبادته، وأنه حليم رشيد بأن يكون يأمرهم بترك ما كان يعبد آباؤهم، وبعده أيضا ما يدل عليه. {قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} أي أفلا أنهاكم عن الضلال؟! وهذا كله يدل على أنهم قالوه على وجه الحقيقة، وأنه اعتقادهم فيه. ويشبه هذا المعنى قول اليهود من بني قريظة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال لهم: «يا إخوة القردة» فقالوا: يا محمد ما علمناك جهولا!.مسألة- قال أهل التفسير: كان مما ينهاهم عنه، وعذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم، كانوا يقرضون من أطراف الصحاح لتفضل لهم القراضة، وكانوا يتعاملون على الصحاح عدا، وعلى المقروضة وزنا، وكانوا يبخسون في الوزن.وقال ابن وهب قال مالك: كانوا يكسرون الدنانير والدراهم، وكذلك قال جماعة من المفسرين المتقدمين كسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم وغيرهما، وكسرهما ذنب عظيم.وفي كتاب أبي داود عن علقمة بن عبد الله عن أبيه قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس، فإنها إذا كانت صحاحا قام معناها، وظهرت فائدتها، وإذا كسرت صارت سلعة، وبطلت منها الفائدة، فأضر ذلك، بالناس، ولذلك حرم. وقد قيل في تأويل قوله تعالى: {وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48] أنهم كانوا يكسرون الدراهم، قاله زيد بن أسلم. قال أبو عمر بن عبد البر: زعموا أنه لم يكن بالمدينة أعلم بتأويل القرآن من زيد بن أسلم بعد محمد بن كعب القرظي. مسألة: قال اصبغ قال عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة مولى زيد بن الحارث العتقي: من كسرها لم تقبل شهادته، وإن اعتذر بالجهالة لم يعذر، وليس هذا بموضع عذر، قال ابن العربي: أما قوله: لم تقبل شهادته فلأنه أتى كبيرة، والكبائر تسقط العدالة دون الصغائر، وأما قوله: لا يقبل عذره بالجهالة في هذا فلأنه أمر بين لا يخفى على أحد، وإنما يقبل العذر إذا ظهر الصدق فيه، أو خفي وجه الصدق فيه، وكان الله أعلم به من العبد كما قال مالك. مسألة: إذا كان هذا معصية وفسادا ترد به الشهادة فإنه يعاقب من فعل ذلك، ومر ابن المسيب برجل قد جلد فقال: ما هذا؟ قال رجل: يقطع الدنانير والدراهم، قال ابن المسيب: هذا من الفساد في الأرض، ولم ينكر جلده، ونحوه عن سفيان.وقال أبو عبد الرحمن النجيبي: كنت قاعدا عند عمر بن عبد العزيز وهو إذ ذاك أمير المدينة فأتى برجل يقطع الدراهم وقد شهد عليه فضربه وحلقه، وأمر فطيف به، وأمره أن يقول: هذا جزاء من يقطع الدراهم، ثم أمر أن يرد إليه، فقال: إنه لم يمنعني أن أقطع يدك إلا أني لم أكن تقدمت في ذلك قبل اليوم، وقد تقدمت في ذلك فمن شاء فليقطع. قال القاضي أبو بكر بن العربي: أما أدبه بالسوط فلا كلام فيه، وأما حلقه فقد فعله عمر، وقد كنت أيام الحكم بين الناس أضرب وأحلق، وإنما كنت أفعل ذلك بمن يرى شعره عونا له على المعصية، وطريقا إلى التجمل به في الفساد، وهذا هو الواجب في كل طريق للمعصية، أن يقطع إذا كان غير مؤثر في البدن، وأما قطع يده فإنما أخذ ذلك عمر من فصل السرقة، وذلك أن قرض الدراهم غير كسرها، فإن الكسر إفساد الوصف، والقرض تنقيص للقدر، فهو أخذ مال على جهة الاختفاء، فإن قيل: أليس الحرز أصلا في القطع؟ قلنا: يحتمل أن يكون عمر يرى أن تهيئتها للفصل بين الخلق دينارا أو درهما حرز لها، وحرز كل شيء على قدر حاله، وقد أنفذ ذلك ابن الزبير، وقطع يد رجل في قطع الدنانير والدراهم. وقد قال علماؤنا المالكية: إن الدنانير والدراهم خواتيم الله عليها اسمه، ولو قطع على قول أهل التأويل من كسر خاتما لله كان أهلا لذلك، أو من كسر خاتم سلطان عليه اسمه أدب، وخاتم الله تقضى به الحوائج فلا يستويان في العقوبة. قال ابن العربي: وأرى أن يقطع في قرضها دون كسرها، وقد كنت أفعل ذلك أيام توليتي الحكم، إلا أني كنت محفوفا بالجهال، فلم أجبن بسبب المقال للحسدة الضلال فمن قدر عليه يوما من أهل الحق فليفعله احتسابا لله تعالى. قوله تعالى: {قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} تقدم {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} أي واسعا حلالا، وكان شعيب عليه السلام كثير المال، قاله ابن عباس وغيره.وقيل: أراد به. الهدى والتوفيق، والعلم والمعرفة، وفي الكلام حذف، وهو ما ذكرناه، أي أفلا أنهاكم عن الضلال! وقيل: المعنى {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أتبع الضلال؟ وقيل: المعنى {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أتأمرونني بالعصيان في البخس والتطفيف، وقد أغناني الله عنه. {وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ} في موضع نصب ب {أُرِيدُ}. {إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ} أي ليس أنهاكم عن شيء وارتكبه كما لا أترك ما أمرتكم به. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}أي ما أريد إلا فعل الصلاح، أي أن تصلحوا دنياكم بالعدل وآخرتكم بالعبادة، وقال: {مَا اسْتَطَعْتُ} لأن الاستطاعة من شروط الفعل دون الإرادة. و{ما} مصدرية، أي إن أريد إلا الإصلاح جهدي واستطاعتي. {وَما تَوْفِيقِي} أي رشدي، والتوفيق الرشد. {إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي اعتمدت. {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي أرجع فيما ينزل بي من جميع النوائب.وقيل: إليه أرجع في الآخرة.وقيل: إن الإنابة الدعاء، ومعناه وله أدعو. قوله تعالى: {وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ} وقرأ يحيى بن وثاب {يجرمنكم}. {شِقاقِي} في موضع رفع. {أَنْ يُصِيبَكُمْ} في موضع نصب، أي لا يحملنكم معاداتي على ترك الأيمان فيصيبكم ما أصاب الكفار قبلكم قاله الحسن وقتادة. وقيل لا: يكسبنكم شقاقي إصابتكم العذاب، كما أصاب من كان قبلكم، قاله الزجاج. وقد تقدم معنى {يَجْرِمَنَّكُمْ} في المائدة والشقاق في البقرة وهو بمعنى العداوة، قاله السدى، ومنه قول الأخطل:وقال الحسن البصري: إضراري.وقال قتادة: فراقي. {وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط.وقيل: وما ديار قوم لوط منكم ببعيد، أي بمكان بعيد، فلذلك وحد البعيد. قال الكسائي: أي دورهم في دوركم. قوله تعالى: {وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} تقدم {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} اسمان من أسمائه سبحانه، وقد بيناهما في كتاب الأسنى في شرح الأسماء الحسنى. قال الجوهري: وددت الرجل أوده ودا إذا أحببته، والودود المحب، والود والود والود والمودة المحبة. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا ذكر شعيبا قال: «ذاك خطيب الأنبياء».قوله تعالى: {قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} أي ما نفهم، لأنك تحملنا على أمور غائبة من البعث والنشور وتعظنا بما لا عهد لنا بمثله.وقيل: قالوا ذلك إعراضا عن سماعه، واحتقارا لكلامه، يقال: فقه يفقه إذا فهم فقها، وحكى الكسائي: فقه فقها وفقها إذا صار فقيها. {وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً} قيل: إنه كان مصابا ببصره، قاله سعيد بن جبير وقتادة.وقيل: كان ضعيف البصر، قاله الثوري، وحكى عنه النحاس مثل قول سعيد بن جبير وقتادة. قال النحاس: وحكى أهل اللغة أن حمير تقول للأعمى ضعيفا، أي قد ضعف بذهاب بصره، كما يقال، له ضرير، أي قد ضر بذهاب بصره، كما يقال له: مكفوف، أي قد كف عن النظر بذهاب بصره. قال الحسن: معناه مهين.وقيل: المعنى ضعيف البدن، حكاه علي بن عيسى.وقال السدي: وحيدا ليس لك جند وأعوان تقدر بها على مخالفتنا.وقيل: قليل المعرفة بمصالح الدنيا وسياسة أهلها و{ضَعِيفاً} نصب على الحال. {وَلَوْ لا رَهْطُكَ} رفع بالابتداء، ورهط الرجل عشيرته الذي يستند إليهم ويتقوى بهم، ومنه الراهطاء لجحر اليربوع، لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده. ومعنى {لَرَجَمْناكَ} لقتلناك بالرجم، وكانوا إذا قتلوا إنسانا رجموه بالحجارة، وكان رهطه من أهل ملتهم.وقيل: معنى {لَرَجَمْناكَ} لشتمناك، ومنه قول الجعدي: والرجم أيضا اللعن، ومنه الشيطان الرجيم. {وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ} أي ما أنت علينا بغالب ولا قاهر ولا ممتنع. قوله تعالى: {قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي} {أَرَهْطِي} رفع بالابتداء، والمعنى أرهطي في قلوبكم {أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} وأعظم وأجل وهو يملككم. {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا} أي اتخذتم ما جئتكم به من أمر الله ظهريا، أي جعلتموه وراء ظهوركم، وامتنعتم من قتلي مخافة قومي، يقال: جعلت أمره بظهر إذا قصرت فيه، وقد مضى في البقرة، {إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ} أي من الكفر والمعصية. {مُحِيطٌ} أي عليم وقيل حفيظ. قوله تعالى: {وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} تهديد ووعيد، وقد تقدم في الأنعام. {مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ} أي يهلكه. و{مَنْ} في موضع نصب، مثل {يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]. {وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ} عطف عليها.وقيل: أي وسوف تعلمون من هو كاذب منا.وقيل: في محل رفع، تقديره: ويخزي من هو كاذب.وقيل: تقديره ومن هو كاذب فسيعلم كذبه، ويذوق وبال أمره. وزعم الفراء أنهم إنما جاءوا ب {هُوَ} في {وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ} لأنهم لا يقولون من قائم، إنما يقولون: من قام، ومن يقوم، ومن القائم، فزادوا {هُوَ} ليكون جملة تقوم مقام فعل يفعل. قال النحاس: ويدل على خلاف هذا قوله: {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} أي انتظروا العذاب والسخطة، فإني منتظر النصر والرحمة. قوله تعالى: {وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا} قيل: صاح بهم جبريل صيحة فخرجت أرواحهم من أجسادهم {نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} أي صيحة جبريل. وأنث الفعل على لفظ الصيحة، وقال في قصة صالح: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} فذكر على معنى الصياح. قال ابن عباس: ما أهلك الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم صالح وقوم شعيب، أهلكهم الله بالصيحة، غير أن قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم الصيحة من فوقهم. {فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ} تقدم معناه. وحكى الكسائي أن أبا عبد الرحمن السلمي قرأ {كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ} بضم العين. قال النحاس: المعروف في اللغة إنما يقال بعد يبعد بعدا وبعدا إذا هلك.وقال المهدوي: من ضم العين من {بَعِدَتْ} فهي لغة تستعمل في الخير والشر، ومصدرها البعد، وبعدت تستعمل في الشر خاصة، يقال: بعد يبعد بعدا، فالبعد على قراءة الجماعة بمعنى اللعنة، وقد يجتمع معنى اللغتين لتقاربهما في المعنى، فيكون مما جاء مصدره على غير لفظه لتقارب المعاني.
|